الاستلاب: في رحيل شارل عدوان
شبلي ملاّط، النهار، 10 آب 2017
خسرنا في المهجر رجلاً متفوقاً في رحيل شارل يوسف عدوان.
يترنّح لبنان من مصائبه العضال، وهي للمواطن العادي على ازدياد يومي في المعيشة والأداء العام، فيجتمع مجلس الوزراء ويقرّر إعفاء رئيس القضاء الإداري من منصبه وكأنه عامل في مسلسل دونالد ترامب الشهير باعتباطيته، وكأنما المجلس الدستوري لم يصدر في عام 1996 قراراً ألغى قانونـاً مخالفاً للدستور لأنّع سمح بإقالة قاضٍ من منصبه من دون متابعة إجراءات الدفاع التي يحرص عليها الدستور لكلّ مواطن -، فكيف بإقالة السلطة التنفيذية قاضياً بهذا المستوى من دون مراعاة لأبسط الأصول ؟ البلد يترنّح والأهل يعلّمون أولادهم ليصدّروهم الى الخارج، لأن السلالة العائلية فقط كفيلة بتوفير فرص العمل لأولاد الجمهورية المختارين، مهما كان تألق سائرهم بعلمه ونجاحه .
من بين المهاجرين المهجّرين الذين علّمهم لبنان، ، فصدّرهم ليستفيد العالم منهم، كان شارل عدوان الأكثر تفوقاً. معروفٌ عن إنجازات شارل الشاب، قبل أن يلفظه لبنان، إنجازٌ إنهار جُلّه لما تركه، "ﻻ ﻓﺴﺎد - اﻟﺠﻤﻌﻴّﺔ اللبنانية ﻟﺘﻌزيز اﻟﺸﻔﺎﻓﻴﺔ". إلا أنّ سيرته كانت أوسع بكثير من لبنان، فهو الذي رافق نهضة الحرية بفعالية وتفانٍ في أوائل طلعتها الزاخمة بداية الألف الثالث. كان آنذاك يعمل بالبنك الدولي في قسم الشرق الأوسط، فساعد على تنظيم أهمّ مجموعة من المقاومين العرب حول قناعتهم المشتركة بأن الحرية أساس الملك.
فصارت اجتمعات متعددة في العواصم العربية، نتج منها بيان هادف خاطب طغاة المنطقة بشجاعة ، ناعتاً إيّاهم "بالمجرمين بحقّ الانسانية"، وهي ميزتهم التاريخية الأصحّ، مزلزلاً بصفائه واندفاعه إجتماع وزراء خارجية الدول الصناعية الكبرى في حقبة في التاريخ شبيهة بعصر الأنوار، مَهّدت لثورة الأرز والربيع العربي وأعطتهما عنوانها الأسمى في اللاعنف سبيلاً حصرياً للتغيير.
وتابع شارل مسيرته في الولايات المتحدة، لضيق الأفق اللبناني أمامه. لم يكن شارل عدوان يوماً محصوراً في لبنان، أو في العالم العربي، أو في أية بؤرة من الكون، فقد حدّثني عنه صدفةً أمير من العائلة المالكة في ماليزيا، وقد عرّفه شارل على لبنان، كما صفّق له زملاء المعارضة الصينية لحديث عن الحرية في قلب نيويورك عام 2011، وقد ربطها نشداناً مشتركاً في شوارع القاهرة وبايجينغ. ولمّا اختار متابعة دراسته، كان شارل قدوة ، اجتمعت حوله أفضل مواهب الدنيا في معهد كينيدي بجامعة هارفارد، والمعهد من المحطّات الأكاديمية الأوفر رقيّأً في العالم.
الهجرة عموماً، وهجرة العقول خصوصاً، ليست جديدة على لبنان، فصار الإغتراب جزءاً لا يتجزأ من تاريخنا، المرير منه والنّاصع. أبناء وطننا وبناته أوسع منه، لا تكفيهم ضفافه، إقتصادياً في أول المطاف. ولكنّ أصعب التضييق ليس في فرص العمل بقدر ما هو ذاك الناتج عن الضّيْق الذي يعيشه اللبنانيون من تعاطي أولي الأمر بأمورهم ، فيأتي رحيل أفضلنا كلَّ يوم ليذكّر بالهوّة بين الناس وساستهم، - هي استلابُهم.
والإستلاب كلمة موحاة من السّلب والسرقة، وهي الرّديف العربي لمفهوم الـaliénation ، أي الغربة التي عبّر عنها أبو الطيّب في أعظم شعره :
أنا في أُمَّةٍ تداركها الله غريبٌ كصالح في ثمودِ
شاء المرض العاتي نزعَ شارل عدوان عن أهله، وعن زوجته الشجاعة، وعن ابن في الثالثة من عمره لا يعرف العالم سوى بِعَيْني أبٍ حَضَنه وأحَبّه وغمَرَه بلا انقطاع حتى القطيعة الكبرى.
خطفَه القدر في أوج عطائه، فحرم وليام وكيلي وأهله، وأصدقاءه، والعالم، من أخلاق وعلم مجتمعَين في أمّة تداركها الله، تبقى فيها طغمة الإستلاب طاغيةً على ما تفعله بأولادها، تصدّرهم الى رحاب كونٍ باتَ أدرى بمواهبهم فيستفيد منهم، فيما الاستلاب في لبنان يزداد قسوةً على قومِهِ يوماً بعد يوم.
ما ضرَّ بعد تغرُّبٍ وفراقِ لو أنَّهم سَمحوا بيوم لقاءِ ليت الأحبَّةَ في المهاجر عندهُمْ ما عندنا لهم من الأشواقِ