ألمعيّة سماح إدريس وصِدْقُه الصّدوق
ألمعيّة سماح إدريس وصِدْقُه الصّدوق
26-11-2021
شبلي ملاّط
رحل الدكتور سماح... رحل سماح سهيل إدريس الصديق اللامع الأصولي، وفي قلبه حرقة من فلسطين.
كان لامعاً في تعدّد اهتماماته، من دكتوراه في جامعة كولومبيا إلى كتابات صريحة عن ركود العروبة وسبل إحيائها، إلى رواياته الشّيقة الموضوعة لتقريب القارىء الشاب من العربية، إلى ارتفاعه لمنزلة ابن منظور في ذاك القاموس اللامتناهي الذي بدأه مع شيخنا المغدور صبحي الصالح، وطوّره كلمةً كلمة في جهد قليلٌ من سبقه إليه في التاريخ، بيير لاروس والعلاّمة البستاني. كما لمع في تحرير #مجلة الآداب في معركة وجودية أمام طاحنة إنترنت وقَتْلِها للإبداع في مساهمتها الإبداعية نفسها، في حين أمْعَنت العروبة التي أحبَّها إلى أفول لا قاعَ له، فحافظ على مجلّة العرب المهجورة من أنظمة عربيّة قاسية وجاهلة لا تطيق جسارَتها.
وكان سماح أصولياً بالمعنى الطاهر للكلمة، صاحب مبدأ لا يتركه ولو اجتمع العالم كلّه في التضييق عليه. فكان في كل معركة للحريات صَنْو فولتير في دفاعه عن حرية التعبير لمن لا يتّفق معه قبل دفاعه عن حريَّة تعبيرِ من يتّفق معه.
وكان أصولياً في الدفاع عن فلسطين لمّا تخلّى اللبنانيون والعرب عن فلسطين، ولو كان مبالغاً في نصرته لبعض المبادرات التي لا أتفق معه تماماً في خوضها لأنني أفضّل في فضائي السياسيّ الالتزام بطرق اللاعنف المطلق، الذي لم يكن سماح يؤمن بها، في فلسطين أوخارجها. هذا لا يمنع احترامي لذاك الخيار، الذي رجّحه التراث العميق نصيراً للعنف قابلةً للتاريخ، على فلسفة تتعثّر كلّ يوم أمام صَلَف الحكّام العتاة في غالب المعمورة.
صداقتي مع سماح جاءت مقرونة بصداقة بدأت مع أخته رنا في دراسة جمعتنا في إسبانيا تعلّماً للغتها ما بعد الأندلس، فتطوّرت في الصبا مع سماح في شوارع نيويورك، نتحدّث عن إدوارد سعيد مثلاً لنا في نشدان العلم بمستوى آخر، قبل أن يصبح كلٌّ منا ملازماً العالم الفلسطيني العظيم في عمله وصداقته، ونمت في أمسية بيروت في السمر الثقافي المتنوّع، وأذكر منها كيف عرضت في شبابي على مجلة الآداب ترجمةً من الفارسية لماهي سياه كوجولو (السمكة الصغيرة السوداء لبهرنﮕى)، فرفض الترجمة لرداءتها، وما أزال أبتسم لأنه كان على حقّ.
يبقى في باب أخلاقه الأصيلة أن أذكر حادثةَ صداقةٍ إن أنسى لا أنساها، كانت في أخلاق بيت إدريس وصدقهم بفتحهم منزلهم لي، وقد بقيت في ضيافتهم أسابيع طويلة لدى خلافٍ آنذاك مستشرٍ مع المرحوم والدي، فكانت صداقة سماح ورنا، والدكتور سهيل والستّ عايدة، رافعةً أخلاقية في فترة صعبة من حياتي.
مثل هذه الأصولية المتعدّدة الأوجه كان سماح دائماً في بالي مثلاً ومثالاً لأناقة تجسيده لها، وعنواناً لصداقة تخطّت كلّ تباين سياسيّ لاحق، والتباين لم يكن على أيّ حال يوماً حول الأصول، فعروبته عروبتي، وصِدْقُه معيار صدقي، وجهاده من أجل الحرية مثالٌ لجهادي. خفّف الله علينا، وعلى ابنتيه وعلى رنا ورائدة، وعلى الست عايدة، بعض آلامنا لهذا الفراق القاسي.