Nahar publishes Lenzen interview on Middle East and Nonviolence

 كان ينبغي أن يعود ثوار سوريا إلى بيوتهم

شبلي ملاّط

26 تشرين الأول 2015

قضايا

في ما يلي أقسام من مقابلة مع البروفسور شبلي ملاط لمناسبة صدور كتابه الجديد "فلسفة اللاعنف" أجرتها البروفسورة مانويلا لنتزن من مركز الأبحاث المتقدمة الألماني ZIF، ونشرتها مجلة المركز Mitteilungen في عددها الثالث هذا العام.

¶ بروفسور ملاّط في كتابكم الصادر حديثاً تطورون فلسفةً للّاعنف. أليست هذه المقاربة مبالِغة في نظرتها المتفائلة بالنسبة للوضع في الشرق الأوسط؟
- السؤال الأهم هو عن صحَّة المقاربة. من الواضح أننا نرى عنفاً مستشرياً على مستوى واسع في الشرق الأوسط اليوم. لكن هنالك أيضاً حقيقةٌ ملموسة جداً مفادها أن العشرات من الملايين من الناس اختاروا بشكلٍ واعٍ استعمال اللاعنف للتعبير عن امتعاضهم من حكوماتهم وعن ضرورة إسقاط الحكام المستبدين على امتداد الشرق الأوسط عام 2011، وأنّ العديد من هؤلاء الناس لا يزالون يتابعون هذا المسار. هذه حقيقة علينا أن نعي معناها، في موازاة فهم السنوات الثلاث التي تبعت هذا المسار الجبّار، ونحن في حالةٍ أسوأ بكثير مما كنا عليه عام 2011: إما لأن النظام السابق عاد بحلَّةٍ مشابهة كما حدث في مصر، أو لأن الأمور تطوّرت بشكل مفجع كما في سوريا. ولذلك فعلينا أن نقرن أية نظرية للاعنف مع أسباب الإخفاق في الشرق الأوسط ما بين عام 2011 واليوم. وهنا يحاول الكتاب أن يعطيَ تفسيراً لما كان على العموم غير مُعتَبَر من منظِّري اللاعنف والناشطين فيه على السواء: لا يمكن ثورة لاعنفية على الإطلاق أن تبقى لاعنفية على الإطلاق بعد إسقاط الحكم المستبد. فحتى عندما تنجح في إسقاط الطاغية، فهي تواجه لازمتَين أساسيتين لاستمرار نجاحها وتأصيله في المجتمع. العنصر الأول هو دستورٌ عمليٌ وفعّال. هذه اللازمة تعبّر عن حاجة الناس الى إعادة رسم العقد السياسي والإجتماعي بعيداً عن الإستبداد يسمح لهم أن يعيشوا سويّة من دون عنف رغم الخلافات في آرائهم والمشادات التابعة لهذه الخلافات، وهي مشادات طبيعية في أي مجتمع. أما اللازمة الأخيرة فهي العدالة، بمعنى آخر المساءلة عن التاريخ القريب: والتاريخ القريب يعني أنّ عنفاً هائلاً من قبل الإستبداد يخلّف وراءه الملايين من الضحايا يحتاج الى المساءلة. ولذلك فنحن بحاجة الى العدالة القضائية وشتّى أساليب المساءلة والمحاسبة. من المستحيل أن يكون هنالك ثورةٌ لاعنفية بدون محاسبة.
¶ 
هل من تراث للاعنف في الفكر السياسي العربي؟
- هنالك روافد عالمية عدَّة في تراث اللاعنف على المرء أن يأخذها في الإعتبار، والحضارة العربية الإسلامية تشكّل أحد أهم هذه الروافد. عندما نحاول أن نفهم كيف تميزت ثورات عام 2011 بهذا الطابع الواسع للاعنف، من الممكن أن نقدّم تفسيراً مبنيّاً على أن الناس في الشرق الأوسط أخذوا هذه الفكرة من أوروبا. هذا لا شكّ فيه شيء من الصحّة. فنظرية "السِّلم الديموقراطي "تشكل أساس السِّلم المستقرّ في أوروبا منذ عام 1945، ويعيدنا الى النظر في إنهاء الحرب من طريق معاهدة للسلام لا تكون مجرّد إنتظار للحرب المقبلة. أناقش في الكتاب سِلْم معاهدة أوتريخت Utrecht عام 1712، وأثرَها الكبير على عددٍ من المفكرين اللامعين، منهم الأباتي دو سان بيار Abbé de Saint-Pierre ، وروسو، وحتى كانط وكرّاسه الشهير بعنوان "نحو السلام الدائم" هذا الكتاب هو المرتكز الأساسي حتى اليوم لنظرية السِّلم الديموقراطي، وما يسميّه كانط الجمهورية مرادفٌ اليوم للديموقراطية. فطرح كانط هو أن الجمهوريات، لأنها ديموقراطية بتعبيرها عن مشيئة الشعب، لا تدخل في حروبٍ بين بعضها البعض. هذه هي نظرية السِّلم الديموقراطي في التراث الأوروبي والعالمي. إنما انا لست مقتنعاً أن هذا الرافد كافٍ لفهم ما حصل عام 2011. أظننا بحاجة الى إعادة النظر في التراث العربي الإسلامي. علينا أن نسأل أنفسنا كيف يمكن لفكرٍ فلسفيٍ وسياسيٍ محبذٍ للاعنف، كيف يمكن لهذا الفكر أن يعادَ اكتشافه من قبلنا من صميم تراثنا في ظلّ ثورات عام 2011؟ هذا عملٌ طويل الأمد ولكنّه ليس مختلفاً بالحقيقة عن إعادة قراءة التاريخ من منظارٍ نَسَوي أو من منظار الطبقة العاملة. وأحاول أن أظهر في فصلٍ كامل من الكتاب أنّ عدداً مهماً من النصوص البديعة موجودة في التراث العربي الإسلامي الفقهي والثقافي على السواء، تعبر عن فلسفة اللاعنف.
¶ 
وماذا عن "داعش"؟ كيف يمكن أن يتم التعاطي مع "داعش" من دون اللجوء الى العنف؟
- سؤال بمحله إنما لا أظنه نقداً جدّياً للّاعنف كفلسفة جديدة للتاريخ، فكأنكِ تقولين لتشرتشل أو روزفلت أن عليهما أن يتعاطيا مع ألمانيا النازية بشكل لا عنفي عام 1944. علينا أن نأخذ بعض البعد تجاه مواضيع تفرض علينا لأننا أخفقنا في وقف المجرم عند حدّه قبل فوات الأوان. هذا نقاش طويل، عن كيف يمكن منع صعود هتلر أو موسوليني، إذا أردنا أن نستعمل عنوان برتولد برشت في المسرحية الشهيرة "المقاومة الممكنة لصعود ارتورو أوي" فإذا نظرنا الى "داعش"، واضح أن الحركة برزت بشكلٍ مميّز في سوريا الصيف الماضي، إنما علينا أن نتذكر أن الثورة السورية طوال أشهرٍ امتدت من آذار حتى صيف عام 2011 كانت ثورة تتميّز بلاعنفها. وقد جابه الثورة العنفُ الفظيع من قبل الحكومة مما فرض على الثوار خيار التسلح أو العودة الى بيوتهم. فبدأوا يتسلحون في تموز - آب 2011، خمسة أشهر بعد القيام بتظاهرات سلميّة قتالية. يبقى أنني أظن أن اللجوء الى التسلّح خطأ ، وأنه كان على الثورة السورية أن تتوقف آنذاك. لكان السوريون في حالةٍ أفضل لو عادوا الى بيوتهم، كما فعل البحرانيون، وبالعودة الى بيوتهم والحدّ من خسائرهم الإقرار بأنهم لم ينجحوا في تنظيم ثورتهم بشكلٍ كاف للتخلص من الطاغية.
¶ 
ما رأيك إذاً بالتدخّل العسكري الخارجي؟
- موضوع التدخل العسكري الى جانب الثورة اللاعنفية أحد أصعب الإشكالات التي يتناولها الكتاب، وتتمّ معالجته في عدد من الطروحات التي لا تزال بعيدة عن التطبيق. الفكرة الأساسية هي كالتالي: إذا كنتِ تحتاجين الى تدخل عسكري خارجي للدفاع عن مدينة أو عن عدد كبير من الناس الذين يتعرّضون لخطر الإبادة من قبل النظام، قد يكون هذا التدخّل مشروعاً. لكنَّ على التدخل أن يكون مشروطاً ببقاء الثورة لاعنفيّة. يبدو إذاً الطرح مقلوباً رأساً على عقب، فليس على الخارج أن يُسَلِّح في حمص الثورة اللاعنفية ضد الأسد، بل على الخارج أن يحمي حمص فقط إذا بقيت الثورة فيها رافضة التعدّي على معذبي النظام وقناصيه. تتم حماية حمص طالما أن أهل حمص محافظون على اللاعنف في ثورتهم. هذا الطرح لا يزال بعيداً عن أي أفق أساسي عند صانع القرار اليوم. قد تترسّخ الفكرة بعد عشر سنوات عندما تنشب ثورة لاعنفية عارمة في مكانٍ آخر. وريثما تتأصّل الفكرة، وعندي أنه من الأفضل للثورة اللاعنفية أن تتوقّف وأن تقبل بعدم إمكان نجاحها الراهن بدلاً من أن تلجأ الى العسكرة.
¶ 
ماذا عن التجربة اللبنانية؟
- يحاول لبنان التعاطي مع الطوائف المختلفة بالرّبط بين التمثيل السياسي والإنتماء الديني، ودستورنا دستور طائفي بالكامل. لكنه، وخلافاً لسائر الدساتير في المنطقة، دستور طائفي علانيَّةً. يقول إن الطائفة تتمتع بشخصيّة دستورية تحتّم على النائب أن يُنتخب وفقاً لانتمائه لها. لذا فهنالك برلمان نصفه مسيحي ونصفه الآخر مسلم، مع توزيع إضافي داخل الدين الواحد، شيعي سني الخ. لا مجال للمواطن أن يتحرّك دستورياً خارج طائفته، والدستور عاجز عن حلّ هذه المعضلة. هذه الظاهرة مميّزة للشرق الأوسط ككلّ، وأجد نفسي، إذا أُرغمت على الإختيار، على طرف العلمانية. لكنّكِ لن تنجحي في حلّ المعضلة بمجرد الكتابة في الدستور أنّ الجميع متساوون أمام القانون. المعضلة أكثر تعقيداً من حلٍّ بهذه البساطة.
كيف يمكن المواطن أن يعلوَ على انتمائه الطائفي؟ قد يكون مفيداً أن نعيد صوغ دساتيرنا بالإلتفات الى انتماءات متعدّدة على الدستور أن يلحظها. فتعدد الإنتماءات قادرٌ على التخفيف من أسْر الطائفية. أحد هذه الإنتماءات إنتماء جنسي. النساء رائدات في الثورة، وأحبِّذ نسبةً دستورية تمنع إقصاء النساء من الحكومات الناشئة بعد الثورة.
هنالك أطرٌ أخرى تخفف من الوطأة الطائفية. مثلاً في نظامٍ دوري في مجلس قيادي يصبح أقلَّ أهمية فيه كونُ الرئيس مسلماً أو مسيحياً أو سنياً أو كردياً. السابقة موجودة في العراق عام 2004، تمثلت بإنشاء المجلس الرئاسي، الذي كان يضمّ 12 عضواً يترأس المجلس كلُّ واحدٌ منهم شهراً على مدار السنة. عندما تكون رئيساً لشهر واحد فقط، أيَّ ضرر يمكن أن تقوم به؟ أيضاً صحيح، ما الخير الذي يمكنك القيام به؟ على أيّ حال نجحت التجربة الجماعية آنذاك نسبياً.
¶ 
كيف ترى الحالة في الشرق الأوسط في السنتين أو السنوات الخمس المقبلة؟
- من المنتظر في منطقة بحجم الشرق الأوسط أن تتعاقب فيها الأحداث تارة نحو السيئ وطوراً بشكل أفضل. نحن اليوم في مرحلة متردية كثيرة عمّا كنا عليه عام 2011، لكننا في حالة أفضل من عام 1988 قبل نهاية الحرب الإيرانية - العراقية، أو في عام 2006 أيام الحرب بين "حزب الله" وإسرائيل. والأحداث السيئة كثيرة، من انتخاب نتنياهو مجدداً في اسرائيل، الى فرض استبداد السيسي على مصر، أو في المأساة السورية. لكنه من الممكن رصد الأمور الإيجابية، مثلاً لديّ اقتناع أننا بصدد تحوّل نوعي الى الأحسن ببروز قيادة هادفة وقادرة في الطائفة العربية داخل اسرائيل. وأرى كيف أن عدداً طاغياً من الأشخاص المفطورين على اللاعنف من عرب اسرائيل، يمكن أن يفرضوا انفسهم على الساحة السياسية الإسرائيلية، وقلب الطاولة على تعديات الحكّام الحاليين، فأعلّل نفسي بأمل تلاقيهم مع الكثيرين في الطائفة اليهودية للإستفادة من هذا الظرف الجديد، كما أنني آملٌ ببناء جسور معهم من طرفنا الخاص خلف الحدود. هذا لن يحصل بسرعة، ولن يحصل من دون عملٍ دؤوب، وبهذا المعنى أحس بأنني لا أزال في خانة"الناشطين".

بروفسور في القانون

Issue: 
Year: