في مراجعة المجلس الدستوري من خلال المحاكم

في مراجعة المجلس الدستوري من خلال المحاكم

شبلي ملاّط

قضايا، 12 أيار 2016 

في رحاب فقهٍ دستوري مقارن على امتداد الكون ثمَّة بَحْرٌ من الآراء المتضاربة في كل دولة، وكلّها تتساءل عن كيفيّة تصدي عدد صغير من القضاة غير المنتخبين لمشيئة البرلمان والسلطة التنفيذية، وكلا الطرفين منتخب بالغالبية في انتخابات عامة مباشرة، وأن يحكموا بأن المرسوم المُتَّخذ أو القانون المقرّ باطل لأنه غير دستوري*.

لكلّ من يرفض الرقابة الدستورية حجّته الحصيفة في أنّ مثل هذا النظام يحوّل السلطة الأقل خطراً في السلطات الثلاث في المنظومة الحكومية إلى أقواها، ويرجّح قرارَها النهائي النافذ على خيار الشعب الممثل في قوانين السلطة التشريعية وقرارات السلطة التنفيذية، فينقضها قضائياً لعدم دستوريتها.
من الصعب التقدّم بأي جديد في نقاش استمر قرنين كاملين بعد بداياته المبدعة دستورياً إبان الثورة الأطلسية في أواخر القرن الثامن عشر، أكتفي هنا بعرضٍ في ثلاث نقاط على خلفية اللحظة الدستورية التي أطلقتها الثورة في الشرق الأوسط عام 2011:
(1)
من الأفضل جمع المحاكم المختلفة في تسلسل هرمي على رأسه محكمة عليا واحدة.
(2)
لكل محكمة سلطة المراجعة الدستورية في قضية خلافية معروضة أمامها.
(3)
للقضاء في ممارسة رقابته الدستورية أن يحصر جُهْدَه في تظلّم المتداعي، أكان فرداً أو جزءاً من مجموعة مغبونة تاريخياً، بدلاً من فصل الخلافات الناشبة بين السياسيين المنتمين الى السلطتين التشريعية والتنفيذية.
وهنا بعض التفصيل في كل من الاطروحات الثلاث:
(1)
لقد قاسى القضاة في الشرق الأوسط من تجزئة سلطة القانون ما بين المحاكم المختلفة. فإذا كان السبب الأول لاعتناق الدستور الإلتزام بالعقد الأعلى الجامع للمواطنين، فمن الأولى أن يطبق هذا العقد على الجميع، وأن يتعرف عليه ويتقبله السواد الأكبر من الناس. قد يكون هنالك فائدة في تعددية إضافية على مستوى أدنى، كما في الهيئات الفيديرالية والأجهزة المتخصصة والسلطات المحلية، وكلّ منها منوط بإصدار التنظيمات النافذة الخاصّة به. إلا أن القاعدة الأمّ هي أن سلطة القانون واحدة مرجعيّتها الدستور، والقوانين والقرارات الأدنى شأناً منسجمة مع القانون الأسمى الذي يمثله الدستور. ولأن التخصّص ضروري، فبعض القضاة أعلم من غيرهم في شأن إداري أو ضريبي أو عائلي أو جنائي، وغيرهم أعلم منهم في المعاملة المدنية اليوميّة، أو التجارية أو المصرفية. هذا لا يمنع سلطة القانون الواحدة أن تطغى، تحميها محكمةٌ عليا واحدة وتطبقها على جميع المواطنين، لا سيّما إذا كان الموضوع الخلافي دستورياً في حده الفاصل للدعوى. أما عندما يتجزأ القضاء، وتغيب عنه المرجعية الموحدة في القمّة، فإن ما يسمّى بسلطة القانون هو نفسه مقوّض، ومن طبائع الإستبداد المشترك في المنطقة تعدّد المحاكم المنشأة من دون سلطة جامعة على رأسها. فالمحاكم الخاصة والعسكرية، والتي يحاول المستبدّ تنصيلها من أية مراجعة، هي الأدوات المفضّلة لتثبيت الظلم؛ يضاف اليه تصديع سلطة القانون بفصل المحاكم الإدارية التي تمارس صلاحياتها في قضايا القانون العام عن المحاكم المدنية العادية (والتي تشمل عموماً المحاكم الجزائية في العرف الفرنسي الغريب) التي تمارس صلاحياتها في قضايا القانون الخاص. أمافي المنطق الذي يعتبر أن سلطة القانون في دولة القانون واحدة تحت قبّة النصّ الدستوري الجامع، فأنا ممن لا يرون مكاناً مقنعاً للمحاكم الخاصة، ولا مجالاً لتعدد المحاكم المتنافسة في ما بينها من دون محكمة المصافّ الأخير التي تنظر في القضايا المهمة وتفصل فيها تحت راية الدستور.
(2)
أما النظام الذي يسمح لجميع المحاكم أن تنظر في المواضيع الدستورية التي تُرْفع أمامها، فهذا عرضة لنقاش أكثر خلافاً. أرى «نموذج المجلس الدستوري» ناقصاً. فالقانون الذي ينقضه المجلس أياماً معدودة بعد إقراره في البرلمان وإصداره من قبل السلطة التنفيذية محطٌ أكيد لأزمة دستورية حالة، لا سيّما إذا جاء هذا القانون بعد نقاش صاخب في المجلس، وتضارب واسع حوله بين البرلمان والسلطة التنفيذية. وعدا عن خطر تواصل الأزمات الدستورية بفعل تطاحن السلطات على تحكيم خلافاتها في المحكمة الدستورية، قد يظهر أثر القانون السيء على حقوق المواطن أو الأقلّية المغبونة في واقعها المعيش أشهراً بل سنوات بعد نفاذ القانون. في هذه الحجة المزدوجة ما بين الأذى الحال بالمواطن ومنافع الزمن في التخفيف من حدة الأزمات الدستورية، تزدوج أيضاً فاعلية تدخل القضاء الدستوري لمعالجةٍ في العمق للغبن الدستوري بمنأى عن صخب السياسة اليومية، وبهذا تترسخ سلطة القاضي حكماً حكيماً منزّهاً ومستقلاً.
يتوجّس القضاء في الشرق الأوسط من مخاطر تظلّم 27 مليون مواطن، في حديث معبّر لرئيس المحكمة الفيديرالية العليا في العراق، في 27 مليون دعوى دستورية تتعدد وتتشعب في أصنافها نقاط خلافية دستورية يعتبر المتداعون أنفسَهم مغبونين فيها. مثل هذا الخطر يجعل تسلسل القضية عبر محاكم الدرجات الأولى والإستئناف قبل وصولها الى المحكمة العليا عمليّة تنقية وتوضيب مهمة، وهذا ما تستفيد منه المحكمة العليا في الولايات المتحدة. وإذا استعجلت محكمة الدرجة الأولى في نقضها القانون دستورياً، أو أخطأت في قرارها بشكل فادح – وهذا حاصل لا محالة من حين الى حين، يتم نقض القرار المستعجَلُ البتّ أو الفادِح المنطق على وجه السرعة استئنافاً، وفي المحكمة العليا في الدرجة الأخيرة. وقياساً فإن استعجال المحكمة العليا أو خطأها الفادح يؤدي الى إساءة عميقة لِسُمْعتها وأبَّهتها في الحقل العام، وهذا يضعفها ويقوّض ثقة الجمهور فيها.
أما تضاعف الدعاوى الدستورية أضعافاً مضاعفة إذا سُمِح للدستور أن يكون فيصلاً في كل قضية تُرْفع أمام المحاكم العادية، فهذا لسان حال عمل القضاء عموماً. وعموماً ينجح رؤساء الغرف في التعاطي مع تكاثر الدعاوى أمامهم، فالقاضي حاذق، كما أن المواطن فطن. لا يتحمل القاضي ثقل المتقاضي المتعسّف، كما يَعْلم المواطن المعتدل أن أية قضية ترفع أمام القضاء تحتاج الى الوقت والجهد والمال إذا أرادها ناجحة.
تتمتع المحاكم بأبّهة كافية وبما يكفيها من السلطة على أقلامها لتوقيت الدعاوى وترتيبها بما يخدم العدالة، وإذا اقتضى الأمر يُمْكنها إقناع السلطتين الأخريين بضرورة تصويب الموارد وحشد الطاقات للتجاوب مع تظلّم المواطنين بشكل يفيد العدل ويرسِّخه. وفي أي حال ليس تراكم الدعاوى وتكاثرها مشكلةً محصورة بالقضايا الدستورية، فالمحاكم كلّها معنيّة بالفصل في النزاعات بما يلائم متطلبات الناس في السرعة والشفافية المناسبة.
(3)
المبدأ الأخير أصعب الاطروحات الثلاث، يطلب من القضاء أن يحصر المراجعة الدستورية في نصرة المواطن الفرد، أو المواطن المنتمي الى أقليّة مغبونة ومهمّشة تاريخياً.
أهمّ ما يتمتع به القضاء هو الإحترام المرتبط باستقلاله كمحكّم في شتى خلافات الجمهورية. والقاضي حَكَمٌ على نوعين من القضايا. القضية الأولى طابعها حكومي، تنشب جرّاء خلاف بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية (وبين دويلات الإتحاد في نظام اتحادي). والقضية الثانية شخصية عندما يعتبر المواطن الفرد، أو مجموعة من المواطنين، أن حقوقهم الأساسية انتُهكت جراء تدبير حكومي ما، أكان التدبير قانوناً أقرّته السلطة التشريعية أو قراراً اتخذته السلطة التنفيذية.
وفي النوع الأول من القضايا أرى من الحكمةأن يتروّى القاضي ويترفع عن الخوض في خلاف حكومي. هذه قاعدة لا تفيد على إطلاقها، لكنها مبنية على قدرة السلطتين الأخريين على التعبير عن موقفهما في الفضاء السياسي الواسع، والعملية السياسية بينهما أجدر في التوصل مع الوقت الى تسوية هي دائماً أوفى من أي قرار جازم تعلنه المحكمة حلاً للخلاف. وإذا فشل المسار كلّه، لا بأس من الإحتكام الى الصندوق الإنتخابي للفصل في قضية باتت من دون شكّ أزمةً وطنية كبرى. أما إذا أخفق الإحتكام الى الشعب في إبراز الفائز، فهذه إشارة إضافية الى أن القضية الخلافية على درجة من التعقيد تتطلب وقتاً إضافياً للعملية السياسية لتوفير التسوية الممكنة بين سلطتي الحكم المتناحرتين، وكلتاهما منتخبتان وتمثلان الشعب مباشرة.
وبالعكس، فإن المواطن المغبون، أو المجموعة الأقلية المغبونة والمهمّشة التي هو جزءٌ منها، لا يتمتع بسلطة مشابهة لتصحيح الأذى الدستوري الذي لحق به. صَوْت المواطن الفرد لا يصدح كصوت السياسي. وعندما تحاول مجموعة أقلّية مغبونة ومهمّشة تاريخياً أن تنال حقوقها عبر الإنتخابات، فإنها بطبيعتها كأقلّية لا ترصد الأصوات الكافية لتقويم مصلحتها جماعياً. هنا مَكْمنُ دور القاضي الأساسي.
القضاة بشر، وبشر مسيّسون على الفطرة، آراؤهم تعكس على العموم مصالح الفئة الحاكمة. لكن المسار القضائي حاضنٌ لأخذ وعطاء لا بأس به في الإنفتاح الذي يوفّره للمتقاضين، لا سيما عندما تزداد ثقة المواطن والجماعة في القضاء المستقلّ والعالِم.
الخلاصة يمكن تبسيطها. على القاضي الدستوري أن يبقى خارج المعركة السياسية عندما يتطاحن ، لكنّه مطالب بأداء الوظيفة كاملةً عندما يلجأ اليه المواطن الأعزل، أو جماعة من المواطنين وصفت في هامش قرار شهير للمحكمة العليا الأميركية بـ"الأقليات المعزولة والمهمشة" أي عندما يتظلّم المواطن أو الجماعة عِنْدَ القاضي للحدّ من غبن الغالبية لحقّه الدستوري. وخلاصةُ أفضل ما كتب في الموضوع ترى القاضي ملاذاً ضرورياً لتصحيح الأذى الحالّ بمواطنين ينتمون الى «المجموعة المستضعفة subordinated group» بمعاني التهميش والتمييز المرادفين لتعاطي الغالبية الغابن مع الأقليات التاريخية.
عندما تبحث الدساتير في الشرق الأوسط عن عقد جماعي جديد للحؤول دون عودة المستبدّ، لا تتطلب الحماية ضد عنف الشرطة نقاشاً مستفيضاً في انتهاكها الواضح خلال التحقيق لأبسط حق المواطن دستورياً. «كلنا خالد سعيد». لكن المواطن أيضاً جزء من عقد اجتماعي متكامل، وبعبارة برتولت برشت، « فإنَّ أصغر وحدة اجتماعية ليست شخصاً بل شخصان». تحتاج نزعة الغالبية لتبقى «في الداخل»، وأن تبقيَ من كان «في الخارج» قابعاً خارجها، إلمسار قضائي يعالج الأذى الذي يتظلّم منه أسراء الغبن على امتداد جيل وأكثر من التهميش والتمييز والإستبداد.

 

محام دولي وبروفسور في القانون

* المقال جزء من مساهمة في ندوة المجلس الدستوري اللبناني، 6 أيار 2016، بدعوة من رئيسه الدكتور عصام سليمان للبحث في تطوير صلاحيات المجلس. والنص مستلّ من فصلٍ عن الدستور في الشرق الأوسط في كتاب فلسفة اللاعنف ( أوكسفورد 2015).

Region: 
Year: